المفكر والحمار // بقلم د. محمود الذكي

 بقلمي القصة القصيرة

المفكر والحمار

في تلك الغرفة الضيقة التي تقع في أسفل البيت المكون من طابقين والتي تطل على الشارع مباشرة نجد هذه الأشياء مبعثرة في داخلها: جهاز حاسوب مكتب على اليسار، وتلفزيون صغير على اليمين، وأريكة ومقعد، وأصوات متداخلة قادمة من تلك النافذة المفتوحة فتحة ضيقة تكفي لمرور الهواء

أمام جهاز الحاسوب يجلس الأستاذ منصور متولي هذا الشخص الذي تجاوز الأربعين بقليل بدين الجسم قصير القامة لا تتوقف أنامله عن الكتابة إذ يبدو من شاشة الحاسوب أنه ينشر شيئا ما عبر الفيسبوك

يدق باب الغرفة وتدخل زوجته شادية تحمل بيديها كوباً من الشاي وتضعه بجانبه على المائدة الصغيرة ثم تنظر له بنظرات حادة وهي تقول بعد أن أطلقت زفيراً عميقاً: هل تريدشيئا آخر؟

منصور يلتفت إليها بعدم اهتمام قائلاً: لا أريد شيئا سوى أن تغلقي الباب خلفك

شادية بصوتٍ عالٍ: إلى متى ستحدثني بهذا الأسلوب المتدني؟ ألا تكفي قعدتك في البيت وتباطؤك في البحث عن عمل واعتمادك كلياً على إيجار البيت الذي تركه لك أبوك ولم يعد يكفينا أنا وأولادك الثلاثة.

يترك منصور النظر في جهاز الحاسوب ويلتفت إلى زوجته وبصوتٍ خافت يقول: أي عمل هذا الذي تريدين ان أبحث عنه؟! لا يوجد عمل في تلك المدينة يناسب قدراتي أو إمكانياتي.

شادية بضحكة ساخرة: أي قدرات هذه التي تملكها؟! يبدو أنك نسيت أنك لم تكمل تعليمك ولم تتعلم أي حرفة أو صنعة بل منعتني عن العمل بالرغم من حصولي على مؤهل عالٍ.

منصور يتنهد تنهيدة كبيرة بعد أن أخذ كوب الشاي وقال: أنا مفكر وباحث وأصبح اسمي معروفًا على الفيسبوك وأمتلك ثقافة ليست عند أحد في عائلتك

شادية بغضب شديد:وما دخل عائلتي أيها الرجل وأي ثقافة هذه التي تتحدث عنها لم أرك يوماً قرأت كتاب أو كتبت شيئا في ورقة، بل كل ما تفعله أنك تبحث عن الأشياء الجدلية التي تخالف ما تعارف عليه الناس وتكتبها، وإما أن تأتي بها من مواقع الإنتر نت، أو تردد ما يقوله منحرفي العقل على شاشة التلفزيون الذين يتبعون منهج (خالف تُعرف) فأنت لا تقل عنهم شيئاً.

ينهض منصور من على مقعده ويمسك كتف زوجته قائلاً بنبرة حادة: غلطتي أنني لم أتزوج امرأة تفهمني وفي مستواي العقلي.

تتخلص شادية من يديه وتبتعد عنه قليلاً وهي تقول: أي مستوى عقلي الذي تتحدث عنه؟! أنا أتابع كل يوم ما تكتبه ورأيت كيف أصبح الناس يتجاهلونك بل إن منهم من سبَّك بالأمس ونعتك بالحمار

منصور وقد أطلق عدة زفرات واستشاط غضباً وهو يقول: الحمار هذا هو أبوك وسوف تعلمين أنت وهؤلاء الجهلاء مَنْ الحمار

تهرول شادية بخطوات سريعة خارج الغرفة بأعين باكية وتتجه نحو غرفة نومها فتجمع ملابسها وتضعها في حقيبتها ثم تجمع أولادها وتخرج بهم إلى بيت أبيها

لم يحاول منصور منع زوجته من مغادرة البيت؛ لكنه قام بتغيير ملابسه ثم توجه إلى مقهى المدينة انتظاراً لصديقه مُسعد الذي اتفق معه أن يتقابلا في هذا المكان.

يجلس منصور على مقعد بعيداً عن الأصوات العالية التي تخرج من رواد المقهى وقد أخذ بعضهم يرمقه بنظرات تحمل الكثير من المعاني لكن نجد من بينهم شاباً في منتصف الثلاثينيات وقد أخذ يقترب منه شيئا ً فشيئًا وبعد أن ألقى عليه التحية توجه له مستفماً: أظن حضرتك الأستاذ منصور متولي؟

منصور بفخر شديد: نعم أنا؛ لكن مَنْ أنت؟ وماذا تريد؟

الشاب بصوتٍ هادئ: اسمي راشد، وأعمل نقاشًا، وأتابع ما تكتبه عبر الفيسبوك، لكن لا أعلق عليه ولا أضع مجرد إعجاب

منصور بضيق شديد: طالما لا تضع إعجابًا أو تعليقاً فلماذا تتابع ما أكتبه؟

راشد: مجرد فضول لكن تسمح لي أن أقول لك شيئا؟

منصور وهو يحاول كتم غضبه: تفضل!

راشد: أشعر من كتاباتك وأرائك أنك تريد أن تقول للناس أنا مثقف وأفهم أكثر منكم وأعرف أشياء لا تعرفوها لكن في الحقيقة حضرتك ناقل وأظن غير قارئ ولا تفهم ما وراء السطور ولهذا على حد علمي هو أنك فشلت في دراستك ولا تمارس عملا في الحياة وتريد أن تثبت نفسك من خلال كونك شاذا عن الآخرين.

ينهض منصور من على مقعده غاضباً صارخاً في وجه راشد: مَنْ أنت أيها الجاهل الأبله حتى تقول لي مثل هذا الكلام؟ ألست مجرد نقاش!

راشد بضحكة هادئة: نعم نقاش لكن أظن عندي رصيد بسيط من القراءة وقدر من التعليم لا بأس به لكن يكفيني لكي أفكر وأتدبر الأمر وكذلك عملي يعطيني بعضًا من خبرات الحياة وأظنك تفتقد كل تلك المؤهلات

منصور يركل المقعد بقدميه نحو راشد وهو يقول: أنت وقح طائر العقل ولو عندك ذرة من الفهم ما قلت لي هذا.

راشد متهكماً بعد أن ابتعد عدة خطوات: والله رد فعلك هذا يؤكد انطباعي الذي أخذته عنك وهو كونك حمارًا لا تفهم ولا تعقل.

هنا يأتي مُسعد مهرولاً بعد أن رأى منصور وتعبيرات وجهه الغاضبة فحاول فض الاشتباك بين الاثنين وأقنع منصور أن يترك المقهى ويسير معه قليلاً في أطراف المدينة.

يخيم الصمت على الاثنين حتى قال منصور نافراً : أشعر أني أعيش في وسط غريب جاهل لا يريد أن يفهمني.

مُسعد ساخراً: وربما أنت الذي لم تفهم من حولك يا منصور لابد أن تعيد حساباتك في أشياء كثيرة.

منصور يصمت قليلاً ثم يقول: نعم سأعيد حساباتي ولن أسكت بعد اليوم لهؤلاء الذين أصبحوا كابوسا في حياتي ( زوجتي وعائلتي والمحيطين بي ورجال الدين والمعلمين وغيرهم).

يطلق مسعد ضحكة عالية ثم يقول متهكماً:تركت ماذا في المدينة يا منصور وكأنك في حرب شعواء معهم والمشكلة أن لا أحد يبالي بك إلا القليل منهم

منصور: كل شيء يحتاج إلى إعادة فهم ولن أسكت لتلك العقول الخربة وسوف يعلمون عن قريب مَنْ الحمار؟

يظل الاثنان يسترسلان في الكلام حتى أصبحا بمحاذاة مقابر المدينة وهنا طلب منصور من مُسعد بأن يتوقف عن السير ويستريحان قليلاً بجانب الشجرة التي زُرعت أمام أحد المقابر.

ظل منصور يتأمل المقبرة في صمت ومسعد ينظر له وهنا قال منصور مستفهماً: هل تظن يا مسعد أن في داخل تلك المقبرة الصماء إنسانًا مات منذ زمن تعفن وتحلل جسده؟! وبعد هذا يقولوا لك أنه يُعذب أو ينعم أو يعيش في حياة أخرى

مُسعد وقد تجهم وجهه: ماذا حدث لك يا منصور؟! بالطبع هناك حياة أخرى للميت كما يقول ديننا الحنيف

منصور ساخراً: وهل تسمع شيئا الآن من تلك الحياة؟ إعمل عقلك قليلاً يا مُسعد.

مسعد بضيق شديد: الكارثة أن هذا ليس رأيك ولكن رأي الملحدين منكري المولى سبحانه وتعالى وبالعموم يا منصور الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يختبر إيماننا تحدث عن أشياء منها ما نراها بالفعل: كالشمس والقمر وأشياء لا نراها الآن؛ ولكن يجب أن نؤمن بها؛لأننا مطالبون بهذا كعذاب القبر ونعيمه، ولهذا أخذ أبو بكر الصديق منزلته العظيمة عندما صدَّق الرسول في حادثة الإسراء والمعراج بالرغم من كونها خارج نطاق العقل

منصور بعصبية شديدة: لكني غير مؤمن بشيء لا يصدقه عقلي.

ينهض مُسعد من مكانه ويطلب من منصور بأن ينهي هذا الحوار ويعود للمنزل

يصل منصور إلى منزله الذي خيم السكون على كل شيء فيه بعد أن تركته زوجته والأولاد وهنا شعر ببعض الإرهاق فامتد على فراشه ثم حدَّث نفسه قائلاً: الناس على الفيس تنعتني بالحمار والشاب في المقهى لم يتورع أن ينعتني بالحمار ومُسعد كان على وشك أن يطلقها في وجهي منذ دقائق أنا لست بالحمار ولكن إنسان يعيش في وسط حمير.

يستغرق منصور في النوم فيجد نفسه في أرضٍ خضراء تفوح رائحة الزرع منها فجلس على أحد الجسور ثم نظر بعينيه بعيداً فوجد فلاحًا يمسك فأسه ويعزق في الأرض وما هي إلا بضعة لحظات حتى ظهر فجأة حمار يحمل فوق ظهره أشياء كثيرة ولا يركبه إنسان ويتجه نحو الفلاح بسرعة كبيرة ثم يقف عندما يصل إليه!

هنا حدَّث منصور نفسه مستفهماً: ما الذي جعل الحمار يعرف طريق الوصول للرجل هكذا؟!

أظن إنه التعود؛ لكن سبحان الله الحمار الذي ينعتني الناس به قد تعوَّد على عمل نافع لكن أنا تعودت على مجرد التكرار فقط إنه الغباء الغباء الغباء.

يستيقظ منصور فزعاً من نومه فجلس على فراشه وهو يحاول تذكر ما رآه فحدَّث نفسه قائلاً وقد تلاحقت أنفاسه: ما هذا؟!

كابوس أم تنبيه، هل يعقل أنني أغبى من الحمار؟!

لابد ألا أتعجل في الإجابة، وأعطي نفسي الفرصة كاملة قبل أن أخسر زوجتي وأولادي وجميع الناس.

د.محمود الذكي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلنا نحبه (حكاية ايقاعية باللغة الصحفية) // بقلم ..مرقص إقلاديوس

نواح الآهات // بقلم المهندسة مهى سروجي